ظل السودان لعقود مدرسة تزخر بالخامات البشرية عالية الكفاءة، إذ لم يكن غريبًا أن تستعين دول عديدة بالخبرات السودانية في التعليم، الطب، الهندسة، القانون، والدبلوماسية.
كان المعلم السوداني رمزًا في الخليج، والطبيب السوداني عنوانًا للخبرة، والمهندس والقانوني نموذجًا للحنكة. صدّر السودان في فترات ما قبل الانهيار السياسي الأخير «القامات والهامات» التي ساهمت في بناء وتطوير دول أخرى.
ولكن اليوم، حين ننظر إلى المشهد السوداني، نجد انحدارًا عميقًا شمل الاقتصاد، السياسة، التعليم، الإعلام والدبلوماسية، حتى صار الخطاب الرسمي في أحيان كثيرة أشبه بخطاب ميليشياوي يفتقر إلى أبسط قواعد الاتزان واللغة. كيف وصل السودان إلى هذا الحال؟ ومتى وكيف يمكن أن يعود إلى ما نعرفه؟
١. حقبة “الكيزان” وجذور التدهور
عند الحديث عن «الكيزان» (وهو الاسم الشعبي في السودان لحركة الإخوان المسلمين التي حكمت منذ انقلاب البشير 1989 حتى الإطاحة به 2019)، لا يمكن تجاهل الأثر المدمر لثلاثة عقود من حكم شمولي.
• في 1989، كان السودان يملك واحدة من أفضل الجامعات في إفريقيا جنوب الصحراء (جامعة الخرطوم)، ونظامًا تعليميًا يُعتبر من الأرقى في المنطقة.
• بحلول 2018، تراجعت موازنة التعليم إلى أقل من 1% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ4–6% في دول إفريقية مجاورة مثل كينيا وغانا.
• عانت الجامعات من هجرة جماعية لأساتذتها، إذ تُقدّر أعداد الأطباء السودانيين العاملين بالخارج اليوم بأكثر من 60% من إجمالي الكوادر الطبية المدربة في البلاد.
• وفق البنك الدولي، انكمش الاقتصاد السوداني بنسبة 11% في 2019 بعد فقدان معظم عائدات النفط (التي شكّلت 50–60% من الإيرادات قبل انفصال الجنوب).
هذه الحقبة ربطت الدولة والحزب في بنية واحدة قائمة على الولاء، مما أنتج جهازًا بيروقراطيًا مترهلًا وفاسدًا، مع تصفية ممنهجة للخبرات والكفاءات.
٢. الخطاب الإعلامي والدبلوماسي: من الرصانة إلى الارتجال
في الماضي، كان الخطاب السوداني يتسم بالرصانة والوزن السياسي. كان الدبلوماسي السوداني يحظى باحترام في المنظمات الإقليمية والدولية، وكان الإعلام السوداني يُنتج رموزًا ذات أسلوب متزن وثقافة واسعة.
لكن بعد عقود من تسييس أجهزة الإعلام وتعيين الولاءات مكان الكفاءات، وصل الحال إلى:
• إغلاق عشرات الصحف المعارضة وتضييق الحريات الإعلامية.
• انهيار المؤسسات الإعلامية المستقلة.
• خطاب رسمي «تعبوي» يعبّر عن منطق ميليشياوي في أحيان كثيرة، مع ضعف اللغة والأسلوب.
• اليوم يعيش السودان واحدة من أسوأ أزمات حرية الصحافة في العالم، فقد جاء في المرتبة 174 من 180 في تصنيف «مراسلون بلا حدود» لعام 2024.
٣. الانهيار الحالي: حرب 2023–2024
جاءت الحرب الأخيرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع (التي اندلعت في أبريل 2023) لتجهز على ما تبقى من الدولة.
• أكثر من 10 ملايين نازح (الأمم المتحدة، مايو 2024)، في أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم حاليًا.
• ما لا يقل عن 15 ألف قتيل وفق تقديرات مستقلة، مع احتمال كون الأرقام أعلى.
• دمار واسع في الخرطوم، الفاشر، مدن النيل الأبيض ودارفور.
• النظام الصحي على وشك الانهيار الكامل، مع خروج أكثر من 70% من المستشفيات عن الخدمة.
• انكماش اقتصادي جديد يُقدّر بـ -12% في 2023.
هذه الحرب أظهرت بوضوح انحدار الخطاب السياسي والإعلامي إلى مستوى الميليشيات: شتائم، تهديدات، تعبئة إثنية، ترويج كراهية، في مشهد ينذر بمزيد من التفتت الاجتماعي.
٤. متى يعود السودان؟
هذا هو السؤال الجوهري. والجواب الصادق أنه لا توجد عودة سهلة ولا قريبة. لكن السودان يملك مقومات للعودة، إذا توفرت شروط أساسية:
أولًا – وقف الحرب:
من دون إنهاء الحرب المستمرة، لا مجال لإعادة بناء الدولة أو الاقتصاد أو التعليم أو الإعلام.
ثانيًا – عملية سياسية جامعة:
يحتاج السودان إلى عقد سياسي جديد يشمل الجميع، ينهي هيمنة العسكر والميليشيات، ويعيد السلطة للمدنيين، ضمن إطار ديمقراطي حقيقي.
ثالثًا – إصلاح المؤسسات:
إعادة بناء الخدمة المدنية على أساس الجدارة وليس الولاء، مع خطة لإعادة الكفاءات المهاجرة.
رابعًا – إحياء التعليم:
رفع مخصصات التعليم في الموازنة إلى مستويات لا تقل عن 4–5% من الناتج المحلي، واستعادة الجامعات كحاضنات للبحث والمعرفة.
خامسًا – إصلاح الخطاب الإعلامي والدبلوماسي:
• تحرير الإعلام من هيمنة الدولة والميليشيات.
• بناء مؤسسات إعلامية مهنية مستقلة.
• تدريب الكوادر الدبلوماسية واستعادة مدرسة الدبلوماسية السودانية التقليدية.
٥. أمل رغم الصعوبات
رغم كل المآسي، ما يزال السودان يملك واحدة من أكبر كتلات الشباب المتعلم في إفريقيا.
• أكثر من 60% من السكان تحت سن 25.
• نسبة الإلمام بالقراءة والكتابة فوق 70% رغم الحروب والفقر.
• جالية سودانية كبيرة بالخارج تملك خبرات ورؤوس أموال يمكن أن تسهم في إعادة الإعمار.
الطريق طويل وصعب، لكنه ليس مستحيلًا. متى يعود السودان؟ حين يقرر السودانيون، بدعم صادق من أصدقائهم، أن يبنوا دولتهم على أسس جديدة: حرية، كرامة، تعليم، قانون، وعدالة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة