شكرا على قرائتكم خبر عن قبل أن تبرد قلوبنا – تليجراف مصر
قبل أن تبرد قلوبنا التي يعتصرها الحزن على ضحايا “جريمة” الطريق الإقليمي، من الضروري ألا نسمح لأي من المتورطين بأن يغسل يديه من دماء بناتنا اللاتي قُتلن في عمر الزهور، وسائق الحافلة المسكين الذي قضى نحبه في عز الشباب مفارقًا أُسرًا يعيلها بدخله البسيط.
أحسد كثيرًا أولئك الذين لا يعنيهم من الأمر شيئًا، الذين لا يغضبون أو يحزنون طالما لم تطالهم المصيبة، أو تمسّ أبناءهم وأحبابهم، فالأنانية أحيانًا توفّر لصاحبها حالة من الجحود والإنكار التي قد تنفع في هذا الزمن الصعب!
على أي حال، سأحاول أن أكون موضوعيًا، وناصحًا قبل أن تُنسى هذه الجريمة مثل غيرها، وتجفّ دماء الضحايا مثل غيرهم، دون أن يحرك ذلك ساكنًا لأحدهم، أو يوقظ ضميره حيال شعب مسكين، تدوس عليه الظروف بأقدام قاسية لا تعرف معنىً للرحمة أو الإنسانية!
دعونا لا ننسى أن هناك أبًا وأمًا في قرية صغيرة بمحافظة المنوفية، كانا يستأنسان صباحًا ومساءًا، ويملآن العين برؤية ابنتهما، لكنهما حرما منها بسبب جريمة متكررة تقتل من المصريين أكثر مما تفعله الحروب في شعوب أخرى!
بداية، لا يمكن أن ننكر أن هناك طفرة ملموسة على مستوى الطرق في مصر، وصار التنقل من مكان لآخر أكثر سهولة، ما انعكس بدوره على تخفيف حدة العصبية والعدوانية أثناء القيادة، كما نلاحظ أن هناك تباهيًا مستمرًا بذلك من القائمين عليه، ولن نلومهم على ذلك، بشرط أن يكون لديهم أيضًا رحابة صدر حين ننتقد قصر عمر كثير من هذه الطرق، وعدم وجود خطط واضحة لصيانتها بشكل دوري حتى لا تنهار سريعًا، على غرار ما حدث في الطريق الإقليمي الذي قتل عليه كثيرون!
لستُ من هواة التنظير، لكنني ببساطة أسافر كثيرا بحكم عملي، وأتنقل بين مصر والإمارات ودول أخرى، لذا أستطيع المقارنة دون مبالغة بين جودة الطرق هنا وهناك، والأهم من كل ذلك، كيفية تنفيذ عمليات الصيانة للطرق، سواء الدورية التي تجري يوميًا أو أسبوعيًا، أو الشاملة التي تستلزم إغلاقًا مؤقتًا لطريق ما.
الإمارات بشكل عام، وإمارتا أبو ظبي ودبي على وجه الخصوص، تملكان أفضل شبكة طرق في العالم من وجهة نظري، فهناك تقود سيارتك على طرق حريرية بمعنى الكلمة، تتوافر بها عوامل أمان صارمة لا يمكن أن تتخللها ثغرة.
اللافتات الإرشادية موزعة بعناية فائقة، وأجهزة الضبط المروري منتشرة كل كيلو متر، ولا يمكن بأي حالة من الأحوال أن تفاجأ بإغلاق مسار سريع أو بطيء دون علامات تحذيرية واضحة للجميع قبل مسافة كافية من منطقة العمل، وإذا استلزم الأمر إغلاق طريق لصيانة طويلة، يتم توفير بديل بالكفاءة ذاتها، حتى لا تتأثر حركة السير، أو ينعكس الأمر سلبًا أو خطورة على حياة البشر.
وفي هذه الحالة تحديدًا، لا أتوقع من أحدهم القول بأن المقارنة غير موضوعية، بالنظر إلى مساحة مصر ومساحة الإمارات، أو عدد السكان في الدولتين، لأنك في نهاية الأمر تنفق الميزانية ذاتها على الطرق، ومن ثم يفترض أن تحصل على النتيجة نفسها، خصوصًا وأن مصر استدانت مئات المليارات لتحديث شبكة الطرق.
ومع توافر شبكة طرق جيدة، تعاني بعض الدول، وفي مقدمتها مصر مشكلة كبيرة مرتبطة بسلوكيات وثقافة وخبرة السائقين، فبكل أسف يعتقد كثيرون أن القيادة هي القدرة على التحكم في المركبة، وهذه كارثة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إذ أن هناك جهلا تاما بأهم أركان القيادة، وهي “لغة الطريق”!
ولو سألت أي شخص من خارج مصر، خصوصًا لو كان خليجيًا أو أوروبيًا عن تجربة القيادة في بلادنا، سيقول لك إنها أقرب إلى فيلم رعب، فمن النادر أن يلتزم أحد بمساره، وكأن الخطوط البيضاء التي تفصل بين المسارات رسمت للتسلية وليس لتعزيز الالتزام، وعدم التجاوز الخاطئ، فضلاً عن السلوكيات العدوانية، والقيادة ببطء في الحارة السريعة، والسير عكس الاتجاه، وعدم الإلمام بثقافة القيادة داخل الدورانات “الميادين أو الصواني بلغتنا العامية”، والاقتحام المفاجئ للشارع من اليمين أو اليسار، وعبور المشاة بشكل عشوائي!
إياكم أن تعتبروها ملاحظات من شخص يتمتع بالرفاهية في بلاده، فهذه المخالفات يحاسب عليها بصرامة هناك، لأن ارتكابها قد يؤدي إلى إزهاق روح بريئة، كما فعل قاتل بناتنا على الطريق الإقليمي!
واسمحوا لي مجددًا بالسفر معكم إلى الإمارات، فهناك لو قرّر سائق شاحنة أو سوّلت له نفسه، بالقيادة في غير المسار المقرر للمركبات الثقيلة، سوف يدفع ثمنًا غاليًا ربما يصل إلى إبعاده عن البلاد!
في آخر زيارة لي في مصر، وبمجرد خروجي من مطار القاهرة مستخدمًا أحد الطرق المفتوحة، فوجئت بشاحنة كبيرة تسير عكس الاتجاه على المسار الأيسر السريع، دون أن يكلف سائقها نفسه حتى إضاءة مصابيح المركبة، وتفاداه سائقي بصعوبة في اللحظات الأخيرة، ولا زلت حتى اليوم متوترًا بسبب هذا الموقف.
إن أمثال هذا السائق قتلة حقيقيون طليقون في الشوارع، يستخدمون مركبات قادرة على إزهاق أرواح العشرات في حادث واحد، مثل حادث الطريق الإقليمي، وهم لا يتورّعون عن التحرش وصدم السيارات الصغيرة دون أن يرفّ لهم جفن، لمجرد شعورهم بالقوة!
وأذكر حين طُبق قانون المرور الأخير في مصر، وشدد عقوبة السير عكس الاتجاه، أن حالة من الالتزام ظهرت على الطرق، وأعتقد أن الوقت قد حان لإعادة النظر في العقوبات مرة أخرى، وتشديدها لدرجة تردع كل من تسوّل له نفسه، بالقيادة تحت تأثير المخدرات أو تهديد سلامة الآخرين من مستخدمي الشوارع.
وأخيرًا، أتمنى من المسؤولين استخدام لغة أكثر لطفًا وإنسانية مع الشعب، خصوصًا في وقت الحزن والمصيبة، وحتى لو شعر المسؤول أن هناك تحاملاً عليه، يتحتم عليه أن يكون صبورًا متفهمًا رقيقًا مع ناس بسطاء يعانون في صمت وألم وحزن!