غادروا بصمت وبقي الدرس حاضرًا

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!

شكرا على قرائتكم خبر عن غادروا بصمت وبقي الدرس حاضرًا

في صباح مشحون بالدخان والدهشة، استفاقت القاهرة على واحدة من فواجعها المؤلمة… حريق سنترال رمسيس. لم تكن النيران وحدها هي التي التهمت الطوابق، بل التهمت معها قلوبًا، وبيوتًا، وأسماءً لا نعرفها، لكنها كانت تؤدي واجبها في صمت.

مهندسون، موظفون، فنيون، وعناصر من رجال الدفاع المدني… خرجوا من بيوتهم كما نفعل كل يوم، كأي يوم عادي. لا يحملون وداعًا، ولا يظنون أن الزمن قد يختصر أعمارهم في تلك الساعات القليلة.

بعضهم لم يكن في ورديته، لكنه لبَّى النداء. وجميعهم اتحدوا في مشهد لن تُنسى ملامحه… الوجوه التي رحلت لم تكن عابرة. خلف كل اسم من أسماء الشهداء حكاية لم تكتمل، وبيت لم يكن مستعدًا للوداع، وأمنيات بقيت معلقة في الأدراج.

خلف كل حكاية أسرة، وخلف كل أسرة علاقة لم تعد كما كانت بعد تلك اللحظة.

أن تحترق مؤسسة هو أمر جلل، لكن أن يحترق مع الجدران من كانوا يملأونها بالحركة والمعنى، هو ما يترك الوجع الحقيقي.
رحلوا وهم في مواقعهم، حاملين شرف المهنة وسكينة الالتزام، دون أن ينتظروا جزاء ولا عرفانًا.

في لحظات الفقد الكبيرة، وفي مواجهة الخسارة، لا نملك سوى الصمت والتأمل. لا تنكسر فقط الجدران، بل ينكسر أيضًا شيء في يقيننا بالحياة.

ندرك فجأة أن الاستمرار ليس مضمونًا، وأن الذين نراهم كل يوم قد لا نراهم في الغد.
وحين تهدأ الأصوات، تخرج الأسئلة من تحت الركام: كيف نعيش؟ وعلى أي أساس نبني علاقتنا بمن نحب؟ وهل نمنح من حولنا ما يستحقونه من حضور واهتمام؟ هل نعيش علاقاتنا كما ينبغي؟

هذه الأسئلة ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة يفرضها الواقع.

لا أحد يملك إجابة كاملة. لكن ما تمنحنا إياه مثل هذه الفواجع هو فرصة التأمل.
حين ننظر إلى صور الشهداء، لا نراهم فقط كضحايا لحريق، بل كأفراد كانوا يحملون على أكتافهم أدوارًا كثيرة: موظفًا في موقعه، أبًا في بيته، زوجًا يكدح من أجل أسرته.
حياتهم لم تنتهِ فقط، بل تركوا وراءهم فراغًا سيُعيد تشكيل معاني الغياب في قلوب من عرفوهم.

فهناك الكثير مما يسرق أعمارنا: كالاعتياد، الذي يجعلنا نسلِّم أن هناك دومًا غدًا، وأن الاعتذار يمكن أن ينتظر، وأن مشاعرنا يمكن أن تؤجَّل. لكن الفقد لا ينتظر، ولا يستأذن.

هذا الحريق الذي أوجع قلوبنا لم يكن مجرد كارثة فنية أو إدارية، بل تذكير صامت، يعيد ترتيب الداخل، يعيد ترتيب الأولويات، ويوقظ الأسئلة النائمة في زوايا البيوت والعلاقات.

فهناك لحظات تختبر صدقنا الداخلي، لا حين ننطق، بل حين نفقد. حين تقع فاجعة بهذا الحجم، لا يمكن أن نرثي الضحايا بكلمات فقط، والأجدى أن نصغي لما بعد الصدمة.
فالمآسي الكبيرة تترك أثرًا نفسيًا يتجاوز مكان الحادث، ويدخل بيوتنا، يوقظ وعينا العاطفي، ويدعونا إلى أن نراجع ما نؤمن به وما نمارسه.
أن نُعيد الاعتبار للعلاقات الإنسانية داخل البيت، أن نُحيي الدرس الذي تركوه لنا، أن نكون أكثر صدقًا في حضورنا، أكثر حرصًا على من نحب، أكثر وعيًا بأن الحياة لا تعطي دائمًا فرصة ثانية.

ولأننا لا نعلم متى يكون اللقاء الأخير، ولأن الفقد لا يطرق الباب ولا يسأل إن كنا مستعدين، فلنقل ما يجب قوله الآن.

نعم، نحزن ونرثي. لكن الحزن وحده لا يكفي.
فالحوادث لا تكتفي بأن تمر، بل تطلب أن نتعلّم.
أن نتوقف أمام مشهد رجل خرج ليؤدي عمله، فلم يعد. أو رجل أطفأ النيران، وابتلعته ألسنتها…

نرثيهم بكل الإجلال، ونحمل في غيابهم درسًا لا يُنسى…
لا أحد نضمن وجوده “لاحقًا”.

فلنُعد النظر في علاقاتنا، في تواصلنا، في كل ما نؤجّله، ظنًّا أن هناك وقتًا لاحقًا…
أن نعيش وكأن كل لحظة قد تكون الأخيرة.



‫0 تعليق

اترك تعليقاً