في مقالي الأَسبق من جزءَين “زهرات فان غوخ حيَّة في نيويورك” (“النهار العربي” 28 حزيران/يونيو والأَول من تموز/يوليو 2025)، كتبتُ عن معرضٍ في نيويورك حاليًا (حتى 26 تشرين الأَول/أُكتوبر المقبل) يعرض تشكيلات وتوليفات مكبَّرة فنيًّا عن لوحاته “دوَّار الشمس”.
هنا تحليل نفسيٌّ ورمزيٌّ لِمَا كان خفيًّا في تعلُّقه بهذه الزهرة تحديدًا، والدافع السري لرسمها تكرارًا.
رقشاتٌ حادَّة لزهرة حادَّة
رديفةُ اسمه
الأَثر الأَول لهذه الزهرات في لوحات فان غوخ (1853-1890) أَنها كرَّسَتْهُ بين أَشهر رسامي تاريخ الفن، ومن أَكثرهم تأْثيرًا في التشكيليين.
فما الذي كان وراء شَغَفه الهاجس برسمها، وأَثرها في عصره وما بعده؟
في العادة أَنْ كلَّما ذُكِرَ فان غوخ، تناهت إِلى الذهْن لوحاته البليغة عن دوَّار الشمس. ولعلَّه تعمَّد ذلك مُسْبقًا، بدليل كتابته يومًا لشقيقه تيو: “دوَّار الشمس زهرتي”. كأَنما هنا يؤَكِّد رغبته أَن يشتهرَ لاحقًا بهذه الرغبة لديه في رسم زهرة حادَّةٍ، ذاتِ عنقٍ بطول الإِنسان، فاغرةٍ فمَها، مُكلَّلةٍ بالشوك. وهذا صحيح، فلزهرة دوَّار الشمس تأْثيرٌ كبير عليه، ولها حتمًا تفسير وتبرير وتحليل في قناعته. فما الذي كان يرمز إليه وهو يرسمها أَكثرَ من مرة، ثم ينسخ رسمه إِياها؟
هل لهذه الزهرة معنى عاطفي؟
تُوازي روائعه الباقية
في متحف لندن الوطني، تحتل لوحات دوَّار الشمس مكانةً وشهرةً توازيان لوحةَ “الليلة ذات النجوم”، وتجتذب إِليها الزوار والرواد والسيَّاح. وكان فان غوخ وضع عشْر لوحات لهذه الزهرة بالذات، في فتراتٍ ثلاث من الاستيحاء. الفترة الأُولى: أَربع لوحات في باريس سنة 1887. الثانية: أَربع لوحات في أَقلَّ من أُسبوع سنة 1888 عند انتقاله من باريس جنوبًا إِلى مدينة آرْلْ. الثالثة: مطلع 1889، إِذ نَسَخَ ثلاثًا من لوحاته الْكان رسَمها في باريس وآرْلْ. ويؤَرِّخُ نُقَّادُهُ أَن لوحات 1888 وضعها في جوِّ من الفرح والثقة والطمأْنينة والهناءة، وقال عنها إِنه وضَعها كأَنه يتذوَّق صحنًا شهيًّا من وجبةٍ يُحبُّها. سوى أَنه، في كل ما كتبه من رسائل عن تكرار وضْعه لوحات دوَّار الشمس، لم ينوِّه أَبدًا عمَّا يقصده بها، أَو بما ترمز أَو تعني له.
كاثرين مانسفيلد: لوحات فان غوخ أَلْهَمَتْها
تخمينات
في تخمين أَول أَنها دافعٌ ليَختبر مهارته في مزج الأَلوان، خصوصًا في الفروقات اللونية بين النُور والظلال للَّون الأَصفر بالذات. لكنها كذلك قد تكون هديةً ليعلِّقها في بيته زميلُه وصديقُه في “البيت الأَصفر” الرسام بول غوغان، وهو كان أُعجِبَ بلوحات دوَّار الشمس. فكأَن فان غوخ وضعَها بادرةَ تضامُن وصداقة مع غوغان، ما يجعلُه يشعر بتقدير مباشِر شفوي على حياته التي كان يتوق خلالها إِلى كلمةِ تقديرٍ حول فنه ممَّن حوله. سوى أَن غوغان غادره بعد شهرين فقط من إِقامته، وفان غوخ مات بعد أشهر قليلة (1890) بحسرةِ أَنه لم يلقَ في حياته تقديرًا يتمنَّى سماعه، وفشِل في أَن يجد مَن يشتري لوحاته.
روجر فراي: لوحات دوَّار الشمس قمة فان غوخ
بداية شهرتها
على أَن لوحات دوَّار الشمس لاقت انتباهًا ورواجًا وشهرةً في مطلع القرن العشرين، بدايةً مع فنانين أُوروبيين طليعيين. وسنة 1920 كتبَت الكاتبة النيوزيلندية كاترين مانسفيلد (1888-1923) أَن “زهرات فان غوخ الصفراء المتأَلقة في الآنية تحت الشمس أَلْهَمتْني الكثير في كتاباتي. وسنة 1923 كتب الناقد الإِنكليزي رودجر فراي (1866-1934): “لوحات فان غوخ عن دوَّار الشمس من أَبرع اللوحات في أَعماله، تُظْهر رشاقتَه ودقَّةَ مهارته في اللون والخط، كما في النور والظلال”. وبالفعل، عامًا بعد عام، أَخذت لوحات دوَّار الشمس تكتسب شهرة ساعدَت على جعل فان غوخ أَحد أَكبر الرسامين المبدعين في تاريخ الفن العالَمي عبر العصور.
التتمة في المقال المقبل (2 من 2)